كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المقام الثاني: احتج الأصحاب على نفي الحلول مطلقًا بأن قالوا: لو حل لحل، إما مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان، فالقول بالحلول باطل، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى أو قدم المحل وكلاهما باطلان، لأنا دللنا على أن الله قديم.
وعلى أن الجسم محدث، ولأنه لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجًا إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته لا يكون واجبًا لذاته، وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل لأنه لما كانت ذاته واجبة الوجود لذاته وحلوله في المحل أمر جائز، والموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحل أمرًا زائدًا على ذاته وذلك محال لوجهين: أحدهما: أن حلوله في المحل لو كان زائدًا على ذاته لكان حلول ذلك الزائد في محله زائدًا على ذاته أو لزم التسلسل وهو محال.
والثاني: أن حلوله في ذلك لما كان زائدًا على ذاته فإذا حل في محل وجب أن يحل فيه صفة محدثة، وذلك محال لأنه لو كان قابلًا للحوادث لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته، وكانت حاصلة أزلًا، وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال، فحصول قابليتها وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن قيل لم لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل.
لأنه يلزم، إما حدوث الحال أو قدم المحل، قلنا: لا نسلم وجوب أحد الأمرين، ولم لا يجوز أن يقال: إن ذاته تقتضي الحلول بشرط وجود المحل ففي الأزل ما وجد المحل فلم يوجد شرط هذا الوجوب فلا جرم لم يجب الحلول، وفيما لا يزال حصل هذا الشرط فلا جرم وجب سلمنا أنه يلزم، إما حدوث الحال أو قدم المحل فلم لا يجوز.
قوله: إنا دللنا على حدوث الأجسام، قلنا: لم لا يجوز أن يكون محله ليس بجسم ولكنه يكون عقلًا أو نفسًا أو هيولى على ما يثبته بعضهم، ودليلكم على حدوث الأجسام لا يقبل حدوث هذه الأشياء، قوله ثانيًا: لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجًا إلى المحل، قلنا: لا نسلم وجوب أحد الأمرين بل هاهنا احتمالان آخران: أحدهما: أن العلة وإن امتنع انفكاكها عن المعلول لكنها لا تكون محتاجة إلى المعلول فلم لا يجوز أن يقال: إن ذاته غنية عن ذلك المحل ولكن ذاته توجب حلول نفسها في ذلك المعلول فيكون وجوب حلولها في ذلك المحل من معلولات ذاته، وقد ثبت أن العلة وإن استحال انفكاكها عن المعلول لكن ذلك لا يقتضي احتياجها إلى المعلول.
الثاني: أن يقال إنه في ذاته يكون غنيًا عن المحل وعن الحلول، إلا أن المحل يوجب لذاته صفة الحلول، فالمفتقر إلى المحل صفة من صفاته وهي حلوله في ذلك المحل فأما ذاته فلا ولا يلزم من افتقار صفة من صفاته الإضافية إلى الغير افتقار ذاته إلى الغير وذلك لأن جميع الصفات الإضافية الحاصلة له مثل كونه أولًا وآخرًا ومقارنًا ومؤثرًا ومعلومًا ومذكورًا مما لا يتحقق إلا عند حصول التحيز، وكيف لا والإضافات لابد في تحققها من أمرين، سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل.
قوله يلزم أن يكون حلوله فيه زائدًا عليه، ويلزم التسلسل، قلنا: حلوله في المحل لما كان جائزًا كان حلوله في المحل زائدًا عليه.
أما كون ذلك الحلول حالًا في المحل أمر واجب فلا يلزم أن يكون حلول الحلول زائدًا عليه فلا يلزم التسلسل.
قوله ثانيًا: يلزم أن يصير محل الحوادث، قلنا: لم لا يجوز ذلك قوله يلزم أن يكون قابلًا للحوادث في الأزل، قلنا: لا شك أن تمكنه من الإيجاد ثابت له إما لذاته أو لأمر ينتهي إلى ذاته، وكيف كان فيلزم صحة كونه مؤثرًا في الأزل فكل ما ذكرتموه في المؤثرية فنحن نذكره في القابلية، والجواب: أنا نقرر هذه الدلالة على وجه آخر بحيث تسقط عنها هذه الأسئلة، فنقول: ذاته، إما أن تكون كافية اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيعود ما قلنا إنه يلزم إما قدم المحل أو حدوث الحال.
وإن كان الثاني كان كونه مقتضيًا لذلك الحلول أمرًا زائدًا على ذاته حادثًا فيه فعلى التقديرات كلها يلزم من حدوث حلوله في محل حدوث شيء فيه لكن يستحيل أن يكون قابلًا للحوادث، وإلا لزم أن يكون في الأزل قابلًا لها وهو محال على ما بيناه، وأما المعارضة بالقدرة فغير واردة لأنه تعالى لذاته قادر على الإيجاد في الأزل فهو قادر على الإيجاد فيما لا يزال فههنا أيضًا لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت في الأزل قابلة لها فحينئذ يلزم المحال المذكور.
هذا تمام القول في هذه الأدلة ولنا في إبطال قول النصارى وجوه أخر.
أحدها: أنهم وافقونا على أن ذاته سبحانه وتعالى لم تحل في ناسوت عيسى عليه السلام بل قالوا الكلمة حلت فيه، والمراد من الكلمة العلم.
فنقول: العلم لما حل في عيسى ففي تلك الحالة إما أن يقال إنه بقي في ذات الله تعالى أو ما بقي فيها فإن كان الأول لزم حصول الصفة الواحدة في محلين.
وذلك غير معقول ولأنه لو جاز أن يقال العلم الحاصل في ذات عيسى عليه السلام هو العلم الحاصل في ذات الله تعالى بعينه، فلم لا يجوز في حق كل واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكل واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى، وإن كان الثاني لزم أن يقال: إن الله تعالى لم يبق عالمًا بعد حلول علمه في عيسى عليه السلام وذلك مما لا يقوله عاقل.
وثانيها: مناظرة جرت بيني وبين بعض النصارى، فقلت له هل تسلم أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول أم لا؟ فإن أنكرت لزمك أن لا يكون الله تعالى قديمًا لأن دليل وجوده هو العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فنقول إذا جوزت اتحاد كلمة الله تعالى بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أن كلمة الله تعالى ما دخلت في زيد وعمرو بل كيف أنها ما حلت في هذه الهرة وفي هذا الكلب، فقال لي: إن هذا السؤال لا يليق بك لأنا إنما أثبتنا ذلك الاتحاد أو الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فإذا لم نجد شيئًا من ذلك ظهر على يد غيره فكيف نثبت الاتحاد أو الحلول، فقلت له: إني عرفت من هذا الكلام أنك ما عرفت أول الكلام لأنك سلمت لي أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنه وجد ما يدل على حصوله في حق عيسى عليه السلام ولم يوجد ذلك الدليل في حق زيد وعمرو ولكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فلا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد وعمرو وعلى السنور والكلب عدم ذلك الحلول، فثبت أنك مهما جوزت القول بالاتحاد والحلول لزمك تجويز حصول ذلك الاتحاد وذلك الحلول في حق كل واحد بل في حق كل حيوان ونبات ولا شك أن المذهب الذي يسوق قائله إلى مثل هذا القول الركيك يكون باطلًا قطعًا، ثم قلت له: وكيف دل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على ما قلت؟ أليس أن انقلاب العصا ثعبانًا أبعد من انقلاب الميت حيًا فإذا ظهر ذلك على يد موسى عليه السلام ولم يدل على إلهيته فبأن لا يدل هذا على آلهية عيسى أولى.
وثالثها: أنا نقول دلالة أحوال عيسى على العبودية أقوى من دلالتها على الربوبية لأنه كان مجتهدًا في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية.
ورابعها: المسيح إما أن يكون قديمًا أو محدثًا والقول بقدمه باطل لأنا نعلم بالضرورة أنه ولد وكان طفلًا ثم صار شابًا وكان يأكل ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر، وإن كان محدثًا كان مخلوقًا ولا معنى للعبودية إلا ذلك، فإن قيل: المعنى بإلهيته أنه حلت صفة الآلهية فيه، قلنا: هب أنه كان كذلك لكن الحال هو صفة الإله والمسيح هو المحل والمحل محدث مخلوق فما هو المسيح (إلا) عبد محدث فكيف يمكن وصفه بالإلهية.
وخامسها: أن الولد لابد وأن يكون من جنس الوالد فإن كان لله ولد فلابد وأن يكون من جنسه فإذن قد اشتركا من بعض الوجوه، فإن لم يتميز أحدهما عن الآخر بأمر ما فكل واحد منهما هو الآخر، وإن حصل الامتياز فما به الامتياز غير ما به الاشتراك، فيلزم وقوع التركيب في ذات الله وكل مركب ممكن، فالواجب ممكن هذا خلف محال هذا كله على الاتحاد والحلول.
أما الاحتمال الثالث: وهو أن يقال معنى كونه إلهًا أنه سبحانه خص نفسه أو بدنه بالقدرة على خلق الأجسام والتصرف في هذا العالم فهذا أيضًا باطل لأن النصارى حكوا عنه الضعف والعجز وأن اليهود قتلوه ولو كان قادرًا على خلق الأجسام لما قدروا على قتله بل كان هو يقتلهم ويخلق لنفسه عسكرًا يذبون عنه.
وأما الاحتمال الرابع: وهو أنه اتخذه ابنًا لنفسه على سبيل التشريف فهذا قد قال به قوم من النصارى يقال لهم الأرميوسية وليس فيه كثير خطأ إلا في اللفظ فهذا جملة الكلام على النصارى وبه ثبت صدق ما حكاه الله تعالى عنه أنه قال: إني عبد الله.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {آتاني الكتاب} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اختلف الناس فيه فالجمهور على أنه قال هذا الكلام حال صغره وقال أبو القاسم البلخي إنه إنما قال ذلك حين كان كالمراهق الذي يفهم وإن لم يبلغ حد التكليف أما الأولون فلهم قولان: أحدهما: أنه كان في ذلك الصغر نبيًا.
الثاني: روى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المراد بأن حكم وقضى بأنه سيبعثني من بعد ولما تكلم بذلك سكت وعاد إلى حال الصغر.
ولما بلغ ثلاثين سنة بعثه الله نبيًا، واحتج من نص على فساد القول الأول بأمور: أحدها: أن النبي لا يكون إلا كاملًا والصغير ناقص الخلقة بحيث يعد هذا التحدي من الصغير منفرًا بل هو في التنفير أعظم من أن يكون امرأة.
وثانيها: أنه لو كان نبيًا في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدمًا على ادعائه للنبوة إذ النبي لابد وأن يكون كامل العقل لكن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدمًا على التحدي وإنه غير جائز.
وثالثها: أنه لو كان نبيًا في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام، وتعريف الشرائع ولو وقع ذلك لاشتهر ولنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنه ما كان نبيًا في ذلك الوقت.
أجاب الأولون عن الكلام الأول بأن كون الصبي ناقصًا ليس لذاته بل الأمر يرجع إلى صغر جسمه ونقصان فهمه، فإذا أزال الله تعالى هذه الأشياء لم تحصل النفرة بل تكون الرغبة إلى استماع قوله وهو على هذه الصفة أتم وأكمل.
وعن الكلام الثاني لم لا يجوز أن يقال إكمال عقله وإن حصل مقدمًا على دعواه إلا أنه معجزة لزكريا عليه السلام، أو يقال: إنه إرهاص لنبوته أو كرامة لمريم عليها السلام وعندنا الإرهاص والكرامات جائزة، وعن الكلام الثالث لم لا يجوز أن يقال مجرد بعثته إليهم من غير بيان شيء من الشرائع والأحكام جائز ثم بعد البلوغ أخذ في شرح تلك الأحكام، فثبت بهذا أنه لا امتناع في كونه نبيًا في ذلك الوقت وقوله: {آتاني الكتاب} يدل على كونه نبيًا في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة، أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى كلام عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على مريم عليها السلام.
المسألة الثانية:
اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة، وقال أبو مسلم: المراد هو الإنجيل لأن الألف واللام هاهنا للجنس أي آتاني من هذا الجنس، وقال قوم: المراد هو التوراة والإنجيل لأن الألف واللام تفيد الاستغراق.
المسألة الثالثة:
اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ومتى جعله نبيًا لأن قوله: {آتاني الكتاب وَجَعَلَنِى نَبِيًّا} يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقًا لذلك الكلام أو متقدمًا عليه بأزمان، والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبيًا وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام.
الصفة الثالثة: قوله: {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا} قال بعضهم أخبر أنه نبي ولكنه ما كان رسولًا لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ومعنى كونه نبيًا أنه رفيع القدر على الدرجة وهذا ضعيف لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصه الله بالنبوة وبالرسالة خصوصًا إذا قرن إليه ذكر الشرع وهو قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة.
الصفة الرابعة: قوله: {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ} فلقائل أن يقول كيف جعله مباركًا والناس كانوا قبله على الملة الصحيحة فلما جاء صار بعضهم يهودًا وبعضهم نصارى قائلين بالتثليث ولم يبق على الحق إلا القليل، والجواب ذكروا في تفسير (المبارك) وجوهًا: أحدها: أن البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير فمعناه جعلني ثابتًا على دين الله مستقرًا عليه.
وثانيها: أنه إنما كان مباركًا لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أسلمت أم عيسى عليها السلام عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم: أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم: اكتب فقال: أي شيء أكتب، فقال: اكتب أبجد فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه فقال: يا مؤدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فأنا أعلمك الألف من آلاء الله والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله والدال من أداء الحق إلى الله.
وثالثها: البركة الزيادة والعلو فكأنه قال: جعلني في جميع الأحوال غالبًا مفلحًا منجحًا لأني ما دمت أبقى في الدنيا أكون على الغير مستعليًا بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم يكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء.
ورابعها: مبارك على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص فقالت: طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به، فقال عيسى عليه السلام مجيبًا لها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جبارًا شقيًا.
أما قوله: {أَيْنَ مَا كُنتُ} فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف.
الصفة الخامسة: قوله: {وَأَوْصَانِى بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا} فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلًا صغيرًا والقلم مرفوع عنه على ما قاله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ» الحديث وجوابه من وجهين: الأول: أن قوله: {وأوصاني بالصلاة والزكاة} لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فلعل المراد أنه تعالى أوصاه بهما وبأدائهما في الوقت المعين له وهو وقت البلوغ.
الثاني: لعل الله تعالى لما انفصل عيسى عن أمه صيره بالغًا عاقلًا تام الأعضاء والخلقة وتحقيقه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} [آل عمران: 59] فكما أنه تعالى خلق آدم تامًا كاملًا دفعة فكذا القول في عيسى عليه السلام، وهذا القول الثاني أقرب إلى الظاهر لقوله: {مَا دُمْتُ حَيًّا} فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه في جميع زمان حيائه ولكن لقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه فقد رأوه شخصًا كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجبًا فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أن يقال إنه تعالى جعله مع صغر جثته قوي التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل مرة أخرى.